تخريج الوعيد الوارد في حق القاتل عمداً في سورة النساء
وقد يقال: كيف خرج هؤلاء مثل هذا الوعيد العظيم في الآية التي في سورة النساء، حيث ذكر تعالى فيها خمسة درجات من درجات الوعيد؟! والجواب: ما قاله أبو هريرة وجماعة من السلف في هذه الآية، حيث قالوا: [هذا جزاؤه إن جازاه]، والأثر بهذا اللفظ روي مرفوعاً، لكن لا يصح رفعه، إنما هو من كلامه رضي الله عنه. ولذلك قال العلماء: الصحيح أن هذه القاعدة سارية في آيات الوعيد ونصوص الوعيد كلها، مثل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10]، وكذلك قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. ))[النور:19]، وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ))[البقرة:159]. فنصوص الوعيد عند العلماء تبقى على إطلاقها وتبقى على عمومها، ولا نقول: إنها جاءت للتغليط، ولا نقول: إنها جاءت في المستحل، ولا نذهب -كما ذهبت المعتزلة و الخوارج - إلى أنه لا بد لكل من فعل ذلك من أن يعاقب، أي أنه كافر أو في منزلة بين المنزلتين، بل نقول: تبقى الآية والحديث على عمومهما وعلى إطلاقهما، ولكن لا يتحقق الوعيد ولا يقع للمعين إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع. وذلك هو معنى كلام أبي هريرة رضي الله عنه: (هذا جزاؤه إن جازاه)، فتكون آيات وأحاديث الوعيد دالة على أن حكمه هو هذا، وأما نفاذ الحكم فموضوع آخر، فقد ينفذ في أحد ولا ينفذ في آخر؛ لأن شرطاً لم يتحقق، أو لأن مانعاً قد وجد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكذا كل وعيد على ذنب، ولكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب). والقول بالموازنة والإحباط يقصد به أن الرجل قد يفعل ما يستحق به الوعيد، كأن يشرب الخمر أو يزني، وفي نفس الوقت يكون له من الأعمال الصالحة ما يزيد على تلك السيئة، فبذلك ترجح كفة الحسنات فيكون من أهل الجنة، فيتخلف الوعيد في حقه.